سورة القصص - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


الكلام في فاتحة هذه السورة قد مرّ في فاتحة الشعراء وغيرها، فلا نعيده، وكذلك مرّ الكلام على قوله: {تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين} فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف، و{آيات} بدل من اسم الإشارة، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب ب {نتلو}، والمبين: المشتمل على بيان الحق من الباطل. قال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى: أظهر {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي نوحي إليك من خبرهما ملتبساً بالحق، وخص المؤمنين؛ لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن، وقيل: إن مفعول نتلو محذوف، والتقدير: نتلو عليك شيئاً من نبئهما، ويجوز أن تكون {من} مزيدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى وفرعون، والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر أو للتبعيض، ولا ملجئ للحكم بزيادتها، والحق: الصدق، وجملة: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ. قال المفسرون: معنى {علا}: تكبر، وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر. وقيل: معنى {علا}: ادعى الربوبية، وقيل: علا عن عبادة ربه {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقاً، وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد، ويطيعونه، وجملة: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ} مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً، ويجوز أن تكون في محلّ نصب على الحال من فاعل جعل، أي جعلهم شيعاً حال كونهم مستضعفاً طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة لطائفة، والطائفة هم بنو إسرائيل، وجملة: {يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْييِ نِسَاءهُمْ} بدل من الجملة الأولى، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالاً، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلاً منها، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم، ويترك النساء؛ لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} في الأرض بالمعاصي والتجبر، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد.
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية، واستحضار صورتها، أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم، والمراد بهؤلاء: بنو إسرائيل، والواو في {ونريد} للعطف على جملة {إن فرعون علا}، وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسباً من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل {يستضعف} بتقدير مبتدأ، أي ونحن نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر:
نجوت وأرهنتهم ملكاً ***
والأوّل أولى {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي قادة في الخير، ودعاة إليه، وولاة على الناس، وملوكاً فيهم {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} لملك فرعون، ومساكن القبط، وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون في مساكنه، ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم {وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرض} أي نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها مسلطين على ذلك يتصرّفون به كيف شاؤوا. قرأ الجمهور: {نمكّن} بدون لام، وقرأ الأعمش: {لنمكن} بلام العلة. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا} قرأ الجمهور: {نرى} بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف: {ويرى} بفتح الياء التحتية والراء، والفاعل فرعون. والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد ونجعل ونمكّن بالنون. وأجاز الفراء: {ويري فرعون} بضم الياء التحتية، وكسر الراء، أي ويرى الله فرعون، ومعنى {مِنْهُمْ}: من أولئك المستضعفين {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} الموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى، والمفعول الأوّل على القراءة الثانية، والمعنى: أن الله يريهم، أو يرون هم الذي كانوا يحذرون منه، ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين.
{وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي ألهمناها وقذفنا في قلبها، وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، وقيل: كان ذلك رؤيا في منامها، وقيل: كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك.
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما، وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبياً، و{أن} في {أَنْ أَرْضِعِيهِ} هي المفسرة، لأن في الوحي معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، أي بأن أرضعيه، وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن، ووصل همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين، وحذف همزة الوصل على غير القياس {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} من فرعون بأن يبلغ خبره إليه {فَأَلْقِيهِ فِي اليم}، وهو بحر النيل، وقد تقدّم بيان الكيفية التي ألقته في اليمّ عليها في سورة طه {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} أي لا تخافي عليه الغرق، أو الضيعة، ولا تحزني لفراقه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} عن قريب على وجه تكون به نجاته {وجاعلوه مِنَ المرسلين} الذين نرسلهم إلى العباد.
والفاء في قوله: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ} هي الفصيحة، والالتقاط: إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر، وفي الكلام حذف، والتقدير: فألقته في اليمّ بعد ما جعلته في التابوت، فالتقطه من وجده من آل فرعون، واللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لام العاقبة، ووجه ذلك: أنهم إنما آخذوه؛ ليكون لهم ولداً، وقرّة عين لا ليكون عدوّاً فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوًّا وحزناً، ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم، وثمرة له شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، ومن هذا قول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ***
قول الآخر:
وللمنايا تربي كل مرضعة *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها
قرأ الجمهور: {وحزناً} بفتح الحاء، والزاي، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف: {وحزناً} بضم الحاء وسكون الزاي، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم، والرَّشَد والرُّشْد، والسَّقَم والسُّقْم، وجملة {إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين} لتعليل ما قبلها، أو للاعتراض لقصد التأكيد؛ ومعنى {خاطئين}: عاصين آثمين في كل أفعالهم وأقوالهم، وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب، وقرئ: {خاطين} بياء من دون همزة، فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور، ولكنها خففت بحذف الهمزة، ويحتمل أن تكون من خطا يخطو، أي تجاوز الصواب.
{وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ} أي قالت امرأة فرعون لفرعون، وارتفاع {قرّة} على أنه خبر مبتدأ محذوف، قاله الكسائي، وغيره. وقيل: على أنه مبتدأ، وخبره: {لاَ تَقْتُلُوهُ} قاله الزجاج، والأوّل أولى. وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها، وأخرجته من التابوت، وخاطبت بقولها: {لاَ تَقْتُلُوهُ} فرعون، ومن عنده من قومه، أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له. وقرأ عبد الله بن مسعود: {وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرّة عين لي ولك}، ويجوز نصب {قرّة} بقوله: {لاَ تَقْتُلُوهُ} على الاشتغال. وقيل: إنها قالت: لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة، وليس من بني إسرائيل. ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم، أو التنبي له، فقالت: {عسى أَن يَنفَعَنَا} فنصيب منه خيراً {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وكانت لا تلد، فاستوهبته من فرعون فوهبه لها، وجملة: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} في محل نصب على الحال، أي وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه، ولا يشعرون أن هلاكهم على يده؛ فتكون حالاً من آل فرعون، وهي من كلام الله سبحانه. وقيل: هي من كلام المرأة، أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، وهم لا يشعرون، قال الكلبي، وهو بعيد جداً.
وقد حكى الفراء عن السديّ عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أن قوله: {لاَ تَقْتُلُوهُ} من كلام فرعون، واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ، ويكفي في ردّه ضعف إسناده.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} قال المفسرون: معنى ذلك: أنه فارغ من كل شيء إلاّ من أمر موسى كأنها لم تهتمّ بشيء سواه. قال أبو عبيدة: خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلاّ من ذكر موسى، وقال الحسن وابن إسحاق، وابن زيد: فارغاً مما أوحى إليها من قوله: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي}، وذلك لما سوّل الشيطان لها من غرقه وهلاكه.
وقال الأخفش: فارغاً من الخوف والغمّ لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدّم من الوحي إليها، وروى مثله عن أبي عبيدة أيضاً.
وقال الكسائي: ناسياً ذاهلاً، وقال العلاء بن زياد: نافراً.
وقال سعيد بن جبير: والهاً كادت تقول: وا ابناه من شدّة الجزع، وقال مقاتل: كادت تصيح شفقة عليه من الغرق. وقيل: المعنى: أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع، والدهش، قال النحاس: وأصحّ هذه الأقوال الأوّل، والذين قالوه أعلم بكتاب الله، فإذا كان فارغاً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي، وقول من قال: فارغاً من الغمّ غلط قبيح؛ لأن بعده: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري ومحمد ابن السميفع وأبو العالية وابن محيصن: {فزعا} بالفاء، والزاي، والعين المهملة من الفزع، أي خائفاً وجلاً، وقرأ ابن عباس: {قرعا} بالقاف المفتوحة، والراء المهملة المكسورة، والعين المهملة من قرع رأسه: إذا انحسر شعره، ومعنى {وَأَصْبَحَ}: وصار، كما قال الشاعر:
مضى الخلفاء في أمر رشيد *** وأصبحت المدينة للوليد
{إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} {إن} هي: المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، أي إنها كادت لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش والخوف والحزن، من بدا يبدو: إذا ظهر، وأبدى يبدي: إذا أظهر، وقيل: الضمير في {به} عائد إلى الوحي الذي أوحى إليها، والأوّل أولى.
وقال الفراء: إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها. قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب: إلهام الصبر، وتقويته، وجواب لولا محذوف، أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت، واللام في: {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} متعلق ب {ربطنا}، والمعنى: ربطنا على قلبها؛ لتكون من المصدّقين بوعد الله، وهو قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} قيل: والباء في {لَتُبْدِي بِهِ} زائدة للتأكيد، والمعنى: لتبديه كما تقول: أخذت الحبل وبالحبل. وقيل: المعنى: لتبدي القول به {وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ} أي: قالت أمّ موسى لأخت موسى، وهي مريم: قصيه، أي تتبعي أثره، واعرفي خبره، وانظري أين وقع، وإلى من صار؟ يقال: قصصت الشيء: إذا اتبعت أثره متعرّفاً لحاله {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} أي أبصرته عن بعد، وأصله عن مكان جنب، ومنه الأجنبي.
قال الشاعر:
فلا تحرميني نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤ وسط الديار غريب
وقيل: المراد بقوله: {عن جنب} عن جانب، والمعنى: أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة، ويؤيد ذلك قراءة النعمان بن سالم عن جانب، ومحلّ: {عن جنب} النصب على الحال إما من الفاعل، أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب، وإما من المجرور، أي بعيداً منها. قرأ الجمهور: {بصرت} به بفتح الباء وضم الصاد، وقرأ قتادة بفتح الصاد، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها. قال المبرّد: أبصرته، وبصرت به بمعنى، وقرأ الجمهور: {عن جنب} بضمتين، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن عليّ بفتح الجيم وسكون النون، وروي عن قتادة أيضاً أنه قرأ بفتحهما.
وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضم الجيم وسكون النون.
وقال أبو عمرو بن العلاء: إن معنى {عَن جُنُبٍ}: عن شوق. قال: وهي لغة جذام يقولون: جنبت إليك أي: اشتقت إليك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنها تقصه وتتبع خبره، وأنها أخته.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} المراضع جمع مرضع، أي منعناه أن يرضع من المرضعات. وقيل: المراضع جمع مرضع بفتح الضاد، وهو الرضاع، أو موضعه، وهو الثدي، ومعنى {مِن قَبْلُ}: من قبل أن نردّه إلى أمه، أو من قبل أن تأتيه أمه، أو من قبل قصها لأثره، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه، فلم يرضع من واحدة منهنّ فعند ذلك {قَالَتْ} أي أخته لما رأت امتناعه من الرضاع: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي: يضمنون لكم القيام به، وإرضاعه {وَهُمْ لَهُ ناصحون} أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. وفي الكلام حذف، والتقدير: فقالوا لها: من هم؟ فقالت: أمي، فقيل لها: وهل لأمك لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون: فدلتهم على أمّ موسى، فدفعوه إليها، فقبل ثديها، ورضع منه، وذلك معنى قوله سبحانه: {فرددناه إلى أُمّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بولدها {وَلاَ تَحْزَنْ} على فراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله} أي جميع وعده، ومن جملة ذلك ما وعدها بقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}. {حَقّ} لا خلف فيه واقع لا محالة {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي أكثر آل فرعون لا يعلمون بذلك، بل كانوا في غفلة عن القدر وسرّ القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يردّه إليها.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} قال: فرّق بينهم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} قال: يستعبد طائفة منهم، ويدع طائفة ويقتل طائفة ويستحيي طائفة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قال: يوسف وولده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} قال: هم: بنو إسرائيل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ولاة الأمر {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} قال: ما كان القوم حذروه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} أي ألهمناها الذي صنعت بموسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال: قال ابن عباس في قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} قال: أن يسمع جيرانك صوته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} قال: فرغ من ذكر كل شيء من أمر الدنيا إلاّ من ذكر موسى.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} قال: خالياً من كل شيء غير ذكر موسى. وفي قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قال: تقول: يا ابناه.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في قوله: {وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ} أي اتبعي أثره {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} قال: عن جانب.
وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «أما شعرت أن الله زوّجني مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وامرأة فرعون؟» قالت: هنيئاً لك يا رسول الله، وأخرجه ابن عساكر عن ابن أبي روّاد مرفوعاً بأطول من هذا، وفي آخره: أنها قالت: بالرفاء والبنين.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ} قال: لا يؤتى بمرضع فيقبلها.


قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] الآية، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما. وقيل: الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين، والاستواء: من الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: الاستواء هو بلوغ الأربعين، وقيل: الاستواء: إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل: هو بمعنى واحد، وهو ضعيف؛ لأن العطف يشعر بالمغايرة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} الحكم: الحكمة على العموم، وقيل: النبوّة. وقيل: الفقه في الدين. والعلم: الفهم، قاله السديّ.
وقال مجاهد: الفقه.
وقال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين آبائه، وقيل: كان هذا قبل النبوّة، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم، والمراد العموم.
{وَدَخَلَ المدينة} أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى. وقيل: مدينة غيرها من مدائن مصر، ومحل قوله: {على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} النصب على الحال إما من الفاعل، أي مستخفياً، وإما من المفعول. قيل: لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون، وفشا ذلك منه، فأخافوه، فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلاّ مستخفياً. قيل: كان دخوله بين العشاء والعتمة، وقيل: وقت القائلة. قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} أي طلب منه أن ينصره، ويعينه على خصمه {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل. قيل: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي؛ ليحمل حطباً لمطبخ فرعون، فأبى عليه، واستغاث بموسى {فَوَكَزَهُ موسى} الوكز: الضرب بجمع الكف، وهكذا اللكز واللهز. وقيل: اللكز على اللحى، والوكز على القلب. وقيل: ضربه بعصاه. وقرأ ابن مسعود: {فلكزه}، وحكى الثعلبي: أن في مصحف عثمان: {فنكزه} بالنون، قال الأصمعي: {نكزه} بالنون: ضربه، ودفعه. قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر.
وقال أبو زيد: في جميع الجسد يعني: أنه يقال له: لكز، واللهز: الضرب بجميع اليدين في الصدر، ومثله عن أبي عبيدة {فقضى عَلَيْهِ} أي قتله، وكل شيء أتيت عليه، وفرغت منه: فقد قضيت عليه، ومنه قول الشاعر:
قد عضه فقضى عليه الأشجع ***
قيل: لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه، فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار. وقيل: إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأموناً عندهم، فلم يكن له أن يغتالهم. ثم وصف الشيطان بقوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} أي: عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله، ظاهر العداوة والإضلال. وقيل: إن الإشارة بقوله: {هذا} إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله. وقيل: إنه إشارة إلى المقتول نفسه يعني: أنه من جند الشيطان وحزبه. ثم طلب من الله سبحانه: أن يغفر له ما وقع منه: {قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ} الله {لَهُ} ذلك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} ووجه استغفاره: أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى {فاغفر لِي}: فاستر ذلك عليّ لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح.
وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوّة. وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل.
ثم لما أجاب الله سؤاله، وغفر له ما طلب منه مغفرته، قال: {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم والجواب مقدر أي: أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ، وتكون جملة: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً. ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف، أي اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ، ويكون قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} مترتباً عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه، و{ما} في قوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ} إما موصولة، أو مصدرية، والمراد بما أنعم به عليه: هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع، وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر، أو مظاهرته على ما فيه إثم.
قال الكسائي، والفراء: ليس قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} خبراً بل هو دعاء، أي فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً لهم. قال الكسائي، وفي قراءة عبد الله: {فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً للمجرمين} وقال الفراء: المعنى: اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين.
وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام.
{فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي، و{خائفاً} خبر {أصبح} ويجوز أن يكون حالاً، والخبر: {في المدينة}، و{يترقب} يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانية، وأن يكون بدلاً من {خائفاً}، ومفعول {يترقب} محذوف، والمعنى: يترقب المكروه أو يترقب الفرح {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} إذا هي الفجائية، والموصول مبتدأ، وخبره: {يستصرخه} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطياً آخر، أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس، والاستصراخ: الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوّت، ويصرخ في طلب الغوث، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الجواب له قرع الظنابيب
{قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته، ولا تطيقه. وقيل: إنما قال له هذه المقالة؛ لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما، وقد تقدّم معنى يبطش، واختلاف القراء فيه. {قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به، فقال لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} فلما سمع القبطي ذلك أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل: إن القائل: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو الظاهر، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل؛ لأنه هو المراد بقوله عَدُوٌّ لَّهُمَا، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه، وأيضاً إن قوله: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} لا يليق صدور مثله إلاّ من كافر، و{إن} في قوله: {إِن تُرِيدُ} هي النافية، أي ما تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض، قال الزجاج: الجبار في اللغة: الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار.
وقيل: الجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب، والقتل، ولا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} أي الذين يصلحون بين الناس.
{وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} قيل: المراد بهذا الرجل: حزقيل، وهو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: طالوت، وقيل: شمعان. والمراد بأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، و{يسعى} يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: مِنْ أَقْصَى المدينة، {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورون في قتلك، ويتآمرون بسببك. قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، وقال أبو عبيد: يتشاورون فيك ليقتلوك: يعني: أشراف قوم فرعون. قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا، أي أمر بعضهم بعضاً، نظيره قوله: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر
{فاخرج إِنّي لَكَ مِنَ الناصحين} في الأمر بالخروج، واللام للبيان؛ لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به، وإدراكهم له، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلاً: {رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي خلصني من القوم الكافرين، وادفعهم عني، وحلّ بيني وبينهم {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحو مدين قاصداً لها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها. انتهى. يقال: داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون، ولهذا خرج إليها {قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل} أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه، وإن لم يدخل فيه، وهو المراد هنا، ومنه قول زهير:
فلما وردنا الماء زرقا حمامه ***
وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين. {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها، وقيل: معناه: في موضع أسفل منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس، ويخلو بينهما وبين الماء، ومعنى الذود: الدفع، والحبس، ومنه قول الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما *** أذود بها سرباً من الوحش نزّعا
أي: أحبس، وأمنع، وورد الذود بمعنى الطرد، ومنه قول الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم *** فما تدري بأي عصى تذود
أي: تطرد {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب: الشأن، قيل: وإنما يقال: ما خطبك لمصاب، أو مضطهد، أو لمن يأتي بمنكر {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء، وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً عن السقي معهم. قرأ الجمهور: {يصدر} بضم الياء، وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازماً، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف، أي يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع. قرأ الجمهور: {الرعاء} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها. قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة، فلذلك استوى فيه الواحد، والجمع. وقرئ: {الرعاء} بالضم اسم جمع. وقرأ طلحة بن مصرف: {نسقى} بضم النون من أسقى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} عالي السن، وهذا من تمام كلامهما، أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا، ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما {سقى لهما} رحمة لهما، أي سقى أغنامهما لأجلهما، {ثم} لما فرغ من السقي لهما {تولى إِلَى الظل} أي: انصرف إليه، فجلس فيه. قيل: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك. ثم قال لما أصابه من الجهد، والتعب منادياً لربه {إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أيّ خير كان {فَقِيرٌ} أي محتاج إلى ذلك. قيل: أراد بذلك الطعام، واللام في: {لِمَا أَنزَلْتَ} معناها: إلى. قال الأخفش: يقال: هو فقير له، وإليه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثلاثاً وثلاثين سنة {واستوى} قال: أربعين سنة.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال: الأشد: ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء: ما بين الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} قال: نصف النهار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني، عنه أيضاً في الآية قال: ما بين المغرب والعشاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {هذا مِن شِيعَتِهِ} قال: إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} قال: قبطي {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} الإسرائيلي {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} القبطي {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} قال: فمات، قال: فكبر ذلك على موسى.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} قال: هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الذي استنصره هو الذي استصرخه.
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض}، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: خرج موسى خائفاً يترقب جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين، و{عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ}، وامرأتان جالستان بشياههما، فسألهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا، إلاّ بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر، قال: فانطلقا، فأريانيها، فانطلقتا معه، فقال بالصخرة بيده، فنحاها، ثم استقى لهم سجلاً واحداً فسقى الغنم، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها {ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، فسمعتا، قال: فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما، فسألهما فأخبرتاه، فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه، فأتت، فقالت: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فمشت بين يديه، فقال لها: امشي خلفي، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ، وأرشديني الطريق {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوي الأمين} قال لها أبوها: ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلاّ النفر. وأما أمانته فقال: امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله.
قيل لابن عباس: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرّهما وأوفاهما.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما؟ فحدّثتاه، فأتى الحجر، فرفعه وحده، ثم استقى فلم يستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما، فحدّثتاه، وتولى موسى إلى الظلّ فقال: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}.
قال: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء} واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها موسى، فقال لها: إمشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه، فقالت إحداهما: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين} قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت: أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلاّ عشرة رجال، وأما أمانته فقال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق؛ فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، فقال: {إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} إلى قوله: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} أي في حسن الصحبة، والوفاء بما قلت {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} قال: نعم، قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فزوَّجه، وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه، وما يحتاج إليه، وزوجه صفوراً وأختها شرفاً، وهما اللتان كانتا تذودان. قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث: إن إسناده صحيح. والسلفع من النساء الجريئة السليطة.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} قال: ورد الماء حيث ورد، وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثماني ليالٍ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر، وخرج حافياً، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال: {تَذُودَانِ}: تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس، ويخلو لهما البئر.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً قال: لقد قال موسى: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ما سأل إلاّ الطعام.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: سأل فلقاً من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع.


قوله: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء} في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج: تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدّثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه، وقيل: الصغرى أن تدعوه له، فجاءته.
وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل: هما ابنتا أخي شعيب، وأن شعيباً كان قد مات. والأوّل أرجح، وهو ظاهر القرآن. ومحلّ {تَمْشِي} النصب على الحال من فاعل جاءت، {وعلى استحياء} حال أخرى، أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط، وجملة: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالت له لما جاءته؟ {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاء سقيك لنا {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} القصص مصدر سمي به المفعول أي: المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطيّ إلى عند وصوله إلى ماء مدين {قَالَ} شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} أي فرعون وأصحابه؛ لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدًّا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عزّ وجلّ، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل، وأشفّ ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه: بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره} القائلة هي التي جاءته، أي استأجره ليرعى لنا الغنم، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة.
وقد اتفق على جوازها، ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصمّ، وجملة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استئجرت القوى الأمين} تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى، أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوّة والأمانة.
وقد تقدّم في المرويّ عن ابن عباس، وعمر: أن أباها سألها عن وصفها له بالقوّة والأمانة فأجابته بما تقدّم قريباً: {قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} فيه مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوّة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين. قال الفراء: يقول: على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين، ومحل: {على أَن تَأْجُرَنِي} النصب على الحال، وهو مضارع أجرته، ومفعوله الثاني محذوف، أي نفسك و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ظرف. قال المبرد: يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدوداً، والأوّل أكثر {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك، أي تفضلاً منك لا إلزاماً مني لك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام، موكولاً إلى المروءة. ومحل {فَمِنْ عِندِكَ} الرفع على تقدير مبتدأ، أي: فهي من عندك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، واشتقاق المشقة من الشقّ، أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول: أطيق، وتارة يقول: لا أطيق. ثم رغبه في قبول الإجارة فقال: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} في حسن الصحبة والوفاء. وقيل: أراد الصلاح على العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولاً أولياً، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته.
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى فقال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} واسم الإشارة مبتدأ، وخبره ما بعده، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه، وجملة: {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} شرطية، وجوابها: {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}، والمراد بالأجلين: الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، ومعنى {قضيَت}: وفيت به، وأتممته، والأجلين مخفوض بإضافة أيّ إليه، وما زائدة.
وقال ابن كيسان: {ما} في موضع خفض بإضافة أيّ إليها، والأجلين بدل منها، وقرأ الحسن: {أيما} بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود: {أيّ الأجلين ما قضيت} ومعنى {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}: فلا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين، أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطالب بالنقصان على العشرة. وقيل: المعنى كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان: تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما، ولكنه جمعهما؛ ليجعل الأوّل كالأتمّ في الوفاء. قرأ الجمهور: {عدوان} بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها. {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك. قيل: هو من قول موسى. وقيل: من قول شعيب، والأوّل أولى لوقوعه في جملة كلام موسى.
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} هو أكملهما، وأوفاهما، وهو العشرة الأعوام، كما سيأتي آخر البحث، والفاء فصيحة {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} إلى مصر، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ} أي أبصر من الجهة التي تلي الطور ناراً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة طه مستوفًى.
{قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِي ءَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} وهذا تقدّم تفسيره أيضاً في سورة طه، وفي سورة النمل. {أَوْ جَذْوَةٍ} قرأ الجمهور بكسر الجيم، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها، وقرأ عاصم، والسلمي، وذرّ بن حبيش بفتحها. قال الجوهري: الجِذوة والجُذوة والجَذوة: الجمرة، والجمع جِذَى وجُذى وجَذى. قال مجاهد: في الآية أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة جميع العرب.
وقال أبو عبيدة: هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها ناراً، ولم يكن، ومما يؤيد أن الجذوة الجمرة قول السلمي:
وبدلت بعد المسك والبان شقوة *** دخان الجذا في رأس أشمط شاحب
{لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بالنار {فَلَمَّا أتاها} أي: أتى النار التي أبصرها، وقيل: أتى الشجرة، والأوّل أولى لعدم تقدّم الذكر للشجرة {نُودِيَ مِن شَاطِيء الواد الأيمن}: {من} لابتداء الغاية، و{الأيمن} صفة للشاطئ، وهو من اليمن وهو البركة، أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى، أي الذي يلي يمينه دون يساره، وشاطئ الوادي: طرفه. وكذا شطه. قال الراغب: وجمع الشاطئ أشطاء، وقوله: {فِي البقعة المباركة} متعلق ب {نودي} أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ، و{مِنَ الشجرة} بدل اشتمال من شاطئ الواد؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ.
وقال الجوهري: يقول: شاطئ الأودية ولا يجمع. قرأ الجمهور: {في البقعة} بضم الباء، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد {أَن ياموسى إِنّي أَنَا الله}: {أن} هي المفسرة، ويجوز أن تكون هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، والأوّل أولى. قرأ الجمهور بكسر همزة {إني} على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه. وقرئ بالفتح، وهي قراءة ضعيفة.
وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} معطوف على {أَن ياموسى} وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل، وفي الكلام حذف، والتقدير: فألقاها فصارت ثعباناً فاهتزت {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} في سرعة حركتها مع عظم جسمها {ولى مُدْبِراً} أي منهزماً، وانتصاب {مدبراً} على الحال وقوله: {وَلَمْ يُعَقّبْ} في محل نصب أيضاً على الحال أي لم يرجع {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} قد تقدّم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده، وكذلك قوله: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} جناح الإنسان: عضده، ويقال لليد كلها: جناح، أي اضمم إليك يديك المبسوطتين؛ لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع، وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات: الأولى: {اسلك يدك في جيبك}.
والثانية: {واضمم إليك جناحك}. والثالثة: {وأدخل يدك في جيبك}. ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعباناً. ومعنى {مِنَ الرهب}: من أجل الرهب، وهو الخوف. قرأ الجمهور: {الرهب} بفتح الراء والهاء، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء. وقرأ ابن عامر والكوفيون إلاّ حفصاً بضم الراء وإسكان الهاء.
وقال الفراء: أراد بالجناح: عصاه، وقال بعض أهل المعاني: الرهب: الكمّ بلغة حمير وبني حنيفة. قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، فسألته عن الرهب، فقال: الكم. فعلى هذا يكون اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ {فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد {برهانان مِن رَّبّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي: حجتان نيرتان ودليلان واضحان، قرأ الجمهور: {فذانك} بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها، قيل: والتشديد لغة قريش. وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بياء تحتية بعد نون مكسورة، والياء بدل من إحدى النونين، وهي لغة هذيل، وقيل: لغة تميم، وقوله: {مِن رَبّكَ} متعلق بمحذوف، أي كائنان منه، وكذلك قوله: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} متعلق بمحذوف، أي مرسلان، أو واصلان إليهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين}: متجاوزين الحدّ في الظلم، خارجين عن الطاعة أبلغ خروج، والجملة تعليل لما قبلها.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب في قوله: {تَمْشِي عَلَى استحياء} قال: جاءت مستترة بكمّ درعها على وجهها.
وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفاً عليه.
وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء، فقال له شعيب: كل، قال موسى: أعوذ بالله، قال: ولم؟ ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً عما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قصّ عليه القصص.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان صاحب موسى أثرون ابن أخي شعيب النبي.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثربي صاحب مدين.
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال: كان اسم ختن موسى يثربي.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يقول أناس: إنه شعيب، وليس بشعيب، ولكنه سيد الماء يومئذٍ.
وأخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة بن المنذر السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة: {طسم} حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه، فلما وفى الأجل» قيل: يا رسول الله، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرّهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته: أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت غنمه» الحديث بطوله. وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة.
وقد روي من وجه آخر، وفيه نظر. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن يحيى بن عبد الله بن بكير، حدّثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة ابن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وابن لهيعة ضعيف، وينظر في بقية رجال السند.
وأخرج ابن جرير عن أنس طرفاً منه موقوفاً عليه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس: أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل.
وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه نحوه، وقوله: «إن رسول الله إذا قال فعل» فيه نظر؛ فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين بل قال: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ}.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى قضى أتمّ الأجلين من طرق.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذرّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرهما، وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: {يا أبت استأجره}».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: أوفاهما، وإن سألوك أيهما تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما».
وأخرج البزار وابن أبن حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه. قال السيوطي: بسندٍ ضعيف، عن أبي ذرّ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرّهما وأوفاهما»، قال: «وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما»
قال البزار: لا نعلم يروي عن أبي ذر إلاّ بهذا الإسناد، وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران، وهو ضعيف. وأما روايات أنه قضى أتمّ الأجلين فلها طرق يقوّي بعضها بعضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي قال: قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله، فضلّ الطريق، وكان في الشتاء فرفعت له نار، فلما رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} فإن لم أجد خبراً آتيكم بشهاب قبس {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} من البرد.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} لعلي أجد من يدلني على الطريق، وكانوا قد ضلوا الطريق.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {أَوْ جَذْوَةٍ} قال: شهاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {نُودِيَ مِن شَاطِئ الواد} قال: كان النداء من السماء الدنيا، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله عنه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى، فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها، فإذا هي سمرة خضراء ترف، فصليت على النبي صلى الله عليه وسلم وسلمت، فأهوى إليها بعيري وهو جائع، فأخذ منها ملء فيه فلاكه فلم يستطع أن يسيغه، فلفظه، فصليت على النبيّ وسلمت، ثم انصرفت.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} قال: يدك.

1 | 2 | 3